سورية بين الأمس واليوم (4 / 9)
بداية النهاية: تقليم الأظافر وانسداد الشرايين

إقرأ أيضا:
سورية بين الأمس واليوم


من عهد الأسد المؤسس إلى زمن الوصاية الدولية(1 من9)

*حافظ الأسد قائد جيش الطائفة... محكوما(2من9)

*مرحلة الرجل القوي:
من الساحة إلى صناعة الدور الاقليمي(3من9)

بلال خبيز، بيروت: تمثل الانجاز الاكبر الذي حققه الرئيس الراحل حافظ الاسد في لبنان. كان الراحل حاكماً فعلياً للبنان على مدى ما يزيد على العقد الكامل، ومتدخلاً مؤثراً في الوضع اللبناني لمدة تزيد على الخمسة عشر عاماً. ومن لبنان وفيه تغذى النظام السوري وتورم دوره على المستوى العربي الأعم. لذلك قد يكون الخروج من لبنان اكبر تهديد للنظام شهده طوال تاريخه. حافظ الاسد كان رئيساً فذاً من دون شك. مفاوض ماهر ولاعب دقيق. يعرف من اين تؤكل الكتف، ولا يتردد في اتخاذ القرار المناسب وقياس اتجاه الريح وسرعتها. لكن وقائع القرن الواحد والعشرين والسنوات القلية التي سبقته، بدت في غير مصلحة النظام على اي وجه من الوجوه. والحق فإن تلك الوقائع التي شهدت اولى عواصفها الكبرى بعيد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان كانت من الشدة والخطورة بما يجعل الكلام عن سوء تقدير القيادة السورية الحالية وعجزها عن التعامل مع المستجدات بالحنكة والحكمة التي عرفت عن الرئيس الأسد الأب مشكوكاً في صحته. فتلك وقائع يجدر بالمراقب ان ينتبه لمدى خطورتها على بنية النظام السوري وطموحاته بما يقطع دابر المهارب الفولكلورية التي ترى في الحصار الذي تعانيه سوريا اليوم نتيجة لأخطاء القيادة الحالية. لا شك ان القيادة الحالية لم تحسن كثيراً او قليلاً التعامل مع الظروف، لكن مسلسل الانحدار السريع بدأ في عهد الأب والأرجح ان حكمته وحنكته ليستا كافيتان وحدهما لضبط مفاعيل هذا الانهيار.

والحق ان قيادة الاسد الأب في العقد الأخير من القرن العشرين اتسمت بالمراهنة على قدرة الأصابع السورية التي تعبث خارج الحدود السورية على تحقيق تسوية ما مع اسرائيل تضمن لسوريا ان تخرج منها سليمة معافاة، سياسياً واقتصادياً. لكن ما جرى ان العرب الذين ذهبوا إلى مدريد كمكافأة لهم على دعمهم الخطة الاميركية لتحرير دولة الكويت لم يكونوا قادرين على دفع اسرائيل إلى تسوية عادلة وشاملة، او إلى تحقيق سلام الشجعان كما كان يحلو للرئيس الراحل القول. فالعرب ذهبوا ومعهم هزائمهم. ذهبوا وفي تاريخهم القريب حربهم التي لم يستطيعوا المشاركة فيها في بيروت 1982، ومعهم ايضاً كل الاختلال الساحق في موازين القوى الذي يجعل من اسرائيل دولة راسخة وفي قلب المعادلات الدولية، في حين تبدو الاقطار العربية عموماً تعاني من اعطاب بنيوية هائلة تضرب مفاعيلها على كل الأصعدة. إذاً ولمن يحسن ان يتذكر، ذهب العرب إلى مدريد من دون الفلسطينيين. كان ثمة وفد فلسطيني ملحقاً بالوفد الاردني. كان لهذا الأمر معنى واحد ووحيد: ليس في وسع الفلسطينيين ان يحلموا بتحقيق اعتراف اسرائيلي بوجودهم. لكن وقائع مدريد وما تلاها اثبتت ان الفلسطينيين يملكون خياراً آخر. على هذا نشأ خيار اوسلو. الخيار الذي اعترض عليه الراحل حافظ الأسد طويلاً. والحق ان الكلام عن ضرورة التضامن العربي الذي كان يتقن وزير الخارجية السوري السيد فاروق الشرع تكراره لم يكن بيت القصيد في أي حال من الأحوال. فالرئيس الأسد نفسه، ويوم كان المسار السوري مرشحاً للخرق، في اواخر 1993 صرح للصحافة ان اي اختراق على اي جبهة في السلام هو امر مفيد ومرغوب. لم يكن التضامن مطلوباً إلا حين يتعلق الأمر بالتضامن مع سوريا المحشورة. وحين يصل الأمر إلى الفلسطينيين او اللبنانيين او الأردنيين يصبح الانفراد بالمفاوضة خرقاً للتضامن العربي المنشود. والحق ان هذا السلوك السوري، بصرف النظر عن مادته التعبوية التي عفا عليها الزمن، ينسجم انسجاماً مطلقاً مع السياسة الخارجية التي أرساها الرئيس حافظ الأسد. فمثل هذه السياسة تقيم لسوريا وزناً اكبر من وزنها الحقيقي، وتجعل امر التضامن العربي والوحدة العربية متمحوراً حول سلامتها ومصالحها، بصرف النظر عن مصالح القوى ولاطراف الأخرى. الخلاصة ان الفلسطينيين انفردوا في اوسلو وغردوا خارج السرب العربي. كان اوسلو من دون ادنى شك، وبمحاكمة منصفة تضع الشعارات الفارغة من مضمونها جانباً، اول خرق فلسطيني بعد مدريد. مثل اوسلو اولاً اعترافاً اسرائيلياً ودولياً بالفلسطينيين شعباً يحق له المطالبة بتقرير المصير. ثم ان الرئيس ياسر عرفات الذي اصر على غزة - اريحا اولاً، لم يكن قليل الدراية والحكمة في عقد ذلك الاتفاق. كثيرون من فلسطينيين وعرب رأوا في اوسلو تفريطاً، لكن وقائع السنوات التالية اظهرت انه الإنجاز الوحيد الذي تحقق على مدى السنوات العربية العجاف الأخيرة.

صورة أرشيفية للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد
علق الرئيس الأسد على اتفاق اوسلو تعليقاً ذهب مثلاً في عالم السياسة في ما بعد. قال ان هذا الاتفاق يحتاج لتنفيذه إلى اتفاقات على كل بند من بنوده. والحق ان اتفاق اوسلو لم يكن اتفاق سلام بالنسبة للفلسطينيين على أقل تقدير. انه اتفاق على بدء مسار عسير ودام من النضال من اجل تحقيق مطالب الحد الأدنى الفلسطينية، انما هذه المرة تحت السقف الدولي. والحال فإننا اليوم نشهد ان الرئيس محمود عباسن رغم انسداد الأفاق امام اي تسوية ورغم كلفة الحل العسكري والكفاح المسلح الباهظة، ما زال يستطيع ان يجادل جورج بوش من على منصة البيت الأبيض في معنى الديموقراطية وفي الإصرار على قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. كان اتفاق اوسلو يعني في معنى من المعاني ان يثبت الفلسطينيون الانجاز ثم يعودون للمفاوضة على تحقيق المطلب التالي. وغالباً ما كانت المفاوضات تكلف الفلسطينيين شلالات من الدم، لكن ما يجدر بنا ان نسجله انصافاً وعدالة، ان الفلسطينيين بكل تياراتهم، ما عدا تلك التي تدور في فلك سوريا وايران، ما كانوا يقاتلون من دون افق سياسي ومن دون ان يكون في الأفق احتمالاً للربح. والحق ان المجتمع الدولي الذي يخوض حرباً شعواء ضد الإرهاب الأصولي استمر منقسماً في الرأي حول حركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، وحول حزب الله اللبناني، ذلك ان هذين الموقعين كانا يستمدان شرعية العنف الذي يمارسانه من التفاف شعبي سياسي. ليس التفافاً اعمى ولم يكن مرة من دون قدر من الواقعية السياسية التي تتيح لهذا الطرف او ذاك ان يخرج من قمقم الإرهاب المطلوب حشره فيه.

هذا الاستطراد يهدف في الدرجة الأولى إلى تبيان مأزق الخيار السوري في المفاوضات مع اسرائيل. إذ افتتح القرن الفائت أيامه على خيبة سورية من الراعي الأميركي تمثلت في لقاء الأسد – كلينتون في جنيف. ومنذ تلك الخيبة، وحتى اليوم لم تفلح الدعوات السورية في جر اسرائيل إلى طاولة المفاوضات مرة أخرى. لكن سياسة الأسد قبل ذلك التاريخ كانت تقضي بربط خيل الفلسطينيين في دمشق. وحيث ان الاصرار الفلسطيني على استقلال القرار الوطني كان حاسماً ودفع ثمنه غالياً، خسرت الإدارة السورية اول اوراقها المهمة في ترتيب سياستها الخارجية. منذ اوسلو كان الفلسطينيون قد اعلنوا انهم خارج الزمان والمكان السوريين، وانهم يملكون مربطاً لخيلهم، ولو لم يكن متسعاً كما هي حال مرابط غيرهم. ولم يبق في يد الإدارة السورية من اوراق فلسطينية مضمونة إلا بعض الأجهزة العسكرية والمخابراتية التي لا يمكن الاعتداد بوزنها في الشارع الفلسطيني وان كانت تستطيع المشاغبة من حين إلى حين. تماماً مثلما حدث مع فتح الانتفاضة بقيادة ابي موسى والقيادة العامة بقيادة احمد جبريل في ايام لبنان الأخيرة.

يمكن القول ان المغالبة الفلسطينية الطويلة النفس كانت على جبهتين، جبهة الصراع مع العدو الإسرائيلي، وجبهة انتزاع الاعتراف النهائي باستقلالية القرار الوطني الفلسطيني، والحق انها نجحت إلى حد بعيد في تحقيق الشق الثاني من هذه المهمة، لكن الشق الأول ما زال محفوفاً بالمخاطر ويشهد المزيد من الانسدادات الخانقة. في هذا السياق لم تكن خسارة الورقة الفلسطينية شأناً عارضاً في السياسة السورية. ولم يفلح حزب الله اللبناني في وراثة هذه الورقة وتسليمها لسوريا رغم كل التصريحات والخطب التي القاها امينه العام السيد حسن نصرالله، عن ضرورة ان يتعظ الفلسطينيون ويتعلموا من حزب الله اللبناني. والحق ان سائل يمكن ان يسأل اليوم: ما الذي يراد للفلسطينيين تعلمه من حزب الله؟ ايكون الدرس التاريخي المطلوب تعلمه هو ان يدفع الفلسطينيون من دمائهم وارزاقهم وتطور اجتماعهم في حرب غير متكافئة مع العدو الإسرائيلي ثم يسلمون الإنجاز كاملاً مكملاً إلى حكمة القيادة السورية في إدارة الصراع؟

بدت الخسارة السورية على الصعيد الفلسطيني اصعب من ان تعوض. ومن جانب آخر لم يسمح المجتمع الدولي باهتزاز المملكة الأردنية للحظة واحدة، فسرعان ما احتشد المجتمع الدولي برمته في تشييع الملك الاردني الراحل الحسين بن طلال دعماً للملك الجديد. ما يعني ان الاصابع السورية التي سبق للملك وان قلم اظافرها عام 1970، لم تستطع ان تمتد مرة أخرى داخل حدود المملكة.
على الجانب التركي، ضاق الجنرالات الاتراك ذرعاً بالمناوشات التي ترعاها دمشق، فحشدوا قواتهم على الحدود وهددوا بالاجتياح، مما اضطر الإدارة السورية في عهد الأسد الراحل إلى الاستجابة للمطالب التركية بتسليم عبدالله اوجلان وملاحقة الناشطين من حزب العمال الكردستاني على الأراضي السورية. وكان للراحل انتحاراً وزير الداخلية السوري اللواء غازي كنعان دوراً بارزاً في ترتيب هذا العقد.

بقي لبنان وحيداً في الحاضنة السورية. ولم يكن لبنان تفصيلاً نافلاً. فهو كان الدجاجة التي تبيض ذهباً. لذلك تبدو خسارته خسارة لسوريا في العمق اكثر منها خسارة عابرة يمكن التعويض عنها. ربما لهذا السبب لم يستطع المسؤولون السوريون ان يصدقوا ان المجتمع الدولي في صدد اخذ البيض اللبناني ومنع سوريا من تجميعه في سلتها. فلم تكل ألسنة المسؤولين السوريين والمحللين المأذون لهم بالتحليل عن تكرار الحديث بعيد صدور القرار 1559 عن مجلس الامن ان هذا القرار صدر ليوضع على الرف، وان المطلوب اميركياً من سوريا هو التعاون في الساحة العراقية. وحالما يتم التعاون السوري وترضى عنه الإدارة الأميركية، سيخفت الحديث عن لبنان وتترك الدجاجة السحرية لأصحابها في دمشق.

خرج الجيش السوري من لبنان وحوصرت الإدارة السورية في قمقم ضيق، وما زالت الخطابات هي نفسها. ثمة طموح سوري في لعب دور ما في لبنان ضمن صفقة اميركية – سورية. ذلك ان التصديق والاقتناع بخسارة الدور تعني في المقام الاول ان المعركة الآن تخاض داخل الحدود السورية لا خارجها. وذلك يعني حرفياً عودة سوريا ساحة كما كانت حالها قبل انقلاب حافظ الأسد ومصطفى طلاس في الربع الاول من عام 1970.